لما رأى جيش معاوية في معركة صفين أنه قارب على الهزيمة أمرهم عمرو ابن العاص برفع صحائف القرآن على رؤوس الرماح مدعين أنهم يريدون القرآن والإسلام
حكماً بين الطرفين. رغم محاولات الإمام علي (ع) تنبيههم إلى أن ذلك خدعة من الطرف الآخر وذكيرهم أنه القرآن الناطق
وإمام المسلمين وأنه على معرفة وثيقة بما يفكر به الطرف الآخر من خديعة ومكر
استطاع نفر ممن كان في جيش خليفة المسلمين الإمام علي (ع) دسهم معاوية لتحقيق مآربه من تأليب الرأي العام في معسكر أمير المؤمنين (ع) ليضطروه للتحكيم.
وكان مما قاله الإمام علي (ع) لهم: "عباد الله، إنّي أحقّ من أجاب إلى كتاب الله، ولكن معاوية
وعمرو بن العاص وابن أبي معيط ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وإنّي اعرف بهم
منكم، صحبتهم أطفالاً وصحبتهم رجالاً، فكانوا شرّ الأطفال وشرّ الرجال، إنّها
كلمة حقّ يُراد بها باطل، إنّهم والله ما رفعوها، إنّهم يعرفونها ولا يعملون
بها، ولكنّها الخديعة والوهن والمكيدة، أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة،
فقد بلغ الحقّ مقطعه، ولم يبق إلاّ أن يقطع دابر الذين ظلموا".
ورغم أن مالك الأشتر رضوان الله عليه كان قد اخترق صفوف الأعداء وقارب على إلحاق هزيمة
نكراء بهم أطاع أمر الإمام علي (ع) بالرجوع بعد أن اضطر هؤلاء خليفة المسلمين للقبول بالتحكيم ضاربين بحذيرهم لهم من عاقبة ذلك عرض الحائط.
أيها الناس قد كنت أمرتكم بأمر في هذه الحكومة
فخالفتموني و عصيتموني و لعمري إن المعصية تورث الندم فكنت أنا و أنتم كما قال
أخو هوازن:
أمرتكم أمري بمنعرج
اللوى فلم تستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
ألا إن هذين الحكمين قد نبذا كتاب الله وراء ظهورهما فأماتا ما أحيا القرآنو أحييا ما أمات، و اتبع كل واحد
منهما هواه بغير هدى من الله فحكما بغير بينة و لا سنة ماضية و كلاهما لم
يرشدا فبرئا من الله و رسوله و صالح المؤمنين فاستعدوا للجهاد و تأهبوا للمسير
و أصبحوا في مواقفكم. (المصدر "سبط ابن الجوزي: تذكرة الخواص")
لم يكن الإمام علي (ع) الوحيد الذي رفض نتيجة التحكيم ولكن الفرقة الي أجبرته على ذلك رفضت
النتيجة أيضاً واتهمت الإمام علي (ع) بتسببه لذلك ليكونوا ما سمي بفرقة الخوارج. ولما رجع الإمام علي (ع) بجيشه إلى الكوفة انشق عنه هؤلاء ولم يدخلوا معه وتحصنوا في منطقة
تسمى حروراء. وكان عداد فرقة الخوارج ما يقارب 12000 مقاتل. وكان الرجوع من معركة صفين في 13 صفر سنة 37
هجرية. واعتبر الخوارج التحكيم الذي أجبروا عليه الإمام علي (ع) ذنباً وطالبوا الإمام علي (ع) بالرجوع عن عهد الهدنة الذي أبرمه لمدة سنة في صفين بسببهم. ولكن الإمام علي (ع) أجابهم: "ويحكم، بعد الرضا والعهد والميثاق أرجع؟"
لم يكتفِ الخوارج بذلك بل رفعوا شعار أن "لا حُكمَ إلاَّ لله ، ونحن لا نرضى بأن
تحكم الرجال في دين الله" وبذلك رفضوا أن يحكم الإمام علي (ع) أو معاوية
وأعلنوا العداء والبغضاء لخليفة المسلمين علي ابن أبي طالب (ع) وصاروا يحثون الناس على استباحة دماء الإمام علي (ع) ومن معه ورغم ذلك لم يتعرض لهم الإمام علي (ع) لعلهم يرجعوا عن غيهم.
لم يقبل الخوارج بجواب الإمام علي (ع) وأعلنوا الحرب عليه واحتلوا مدينة النهروان وقلوا والي الإمام علي (ع)
عليها عبد الله ابن خباب مع زوجته وابنه. ولما أرسل الإمام علي (ع) الصحابي الجليل الحارث ابن مرة ليسطلع حقيقة الأمر قتلوه أيضاً. عندها لم يجد
الإمام بداً من الاتجاه إلى النهروان بجيشه لاقلاع بذور الفتنة. ولما وصل
إليهم طالبهم بتسليم القاتل ولكنهم رفضوا ذلك مدعين مسؤوليتهم الجماعية عن
القتل.
وألقى الإمام علي (ع) رغم ذلك الحجة عليهم وحاول مرات عدة ردهم عن غيهم. وجاء في كتاب جواهر
الاريخ للشيخ علي الكوراني العاملي عن اريخ الطبري فيما خاطبهم فيه الإمام علي (ع):
"عن زيد بن وهب أن علياً أتى أهل النهر ،
فوقف عليهم فقال: أيتها العصابة التي أخرجها عداوة المراء واللجاجة ، وصدها عن
الحق الهوى وطمح بها النزق ، وأصبحت في اللبس والخطب العظيم ، إني نذيرٌ لكم
أن تصبحوا تُلفيكم الأمة غداً صرعى بأثناء هذا النهر ، وبأهضام هذا الغائط ،
بغير بينة من ربكم ، ولا برهان بيِّن! ألم تعلموا أني نهيتكم عن الحكومة ،
وأخبرتكم أن طلب القوم إياها منكم دهن ومكيدة لكم ، ونبأتكم أن القوم ليسوا
بأصحاب دين ولا قرآن ، وأني أعرف بهم منكم ، عرفتهم أطفالاً ورجالاً ، فهم أهل
المكر والغدر ، وأنكم إن فارقتم رأيي جانبتم الحزم ، فعصيتموني، حتى إذا
أقررتُ بأن حكَّمت ، فلما فعلت شرطت واستوثقت ، فأخذت على الحكمين أن يحييا ما
أحيا القرآن ، وأن يميتا ما أمات القرآن ، فاختلفا وخالفا حكم الكتاب والسنة ، فنبذنا أمرهما ونحن على أمرنا الأول ، فما الذي بكم ومن أين أتيتم؟!
قالوا: إنا حكَّمنا فلما حكمنا وأثمنا وكنا بذلك كافرين، وقد تُبنا
فإن تُبت كما تبنا فنحن منك ومعك ، وإن أبيت فاعتزلنا فإنا منابذوك على سواء ،
إن الله لايحب الخائنين ! فقال عليٌّ: أصابكم حاصب ، ولا بقيَ منكم وابر
، أبعد إيماني برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهجرتي معه وجهادي
في سبيل الله ، أشهد على نفسي بالكفر ، لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين .
ثم انصرف عنهم"
وبدل الرجوع عن غيهم تنادوا: لاتخاطبوهم ولاتكلموهم ، وتهيؤا للقاء الرب !
الرواح الرواح إلى الجنة !
وبعد الوعظ وإلقاء الحجج وإرسال الرسل المخلفين إليهم من الصحابة أراد الإمام علي (ع) إلقاء الحجة
الأخيرة ودمغ الشك باليقين أنه بذك كل ما بوسعه لحقن دماء أكبر عدد ممكن من
المقالين فأعلن العفو عن كل من يرجع منهم إلى صوابه ويترك محاربته فترك الكثيرون
معسكر الخوارج ولم يبق إلا ما يقارب 1800 مقاتل وفي رواية أُخرى ما يقارب 4000 مع
عبد الله ابن وهب ممن أصروا على مقاتلة الإمام علي (ع).
فَأَنَا نَذِيرٌ لَكُمْ أَنْ تُصْبِحُوا صَرْعَى
بِأَثْنَاءِ هذَا النَّهَرِ، وَبِأَهْضَامِ هذَا الْغَائِطِ عَلَى غَيْرِ
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، وَلاَ سُلْطَانٍ مُبِينٍ مَعَكُمْ، قَدْ طَوَّحَتْ
بِكُمُ الدَّارُ، وَاحْتَبَلَكُمُ الْمِقْدَارُ وَقَدْ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ
عَنْ هذِهِ الْحُكُومَةِ فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ المخالفين، حَتَّى
صَرَفْتُ رَأْيِي إِلَىْ هَوَاكُمْ، وَأَنْتُمْ مَعَاشِرُ أَخِفَّاءُ
الْهَامِ، سُفَهَاءُ الاْحْلاَمِ وَلَمْ آتِ ـ لاَ أَبَا لَكُمْ ـ بُجْراً
وَلاَ أَرَدْتُ لَكُمْ ضُرّاً.
وحسب روايات أُخرى حصلت المعركة في الرابع عشر من
شهر ذي القعدة سنة 40 للهجرة.
|
0 comments:
Post a Comment